عام الفزوع 1864

الوصف:

عام الفزوع : لم يكن الشاب العاتي بن عيسى الذي كان على صلة بعلي بن غذاهم زعيم ثورة 1864 يتوقع أن تقتلعه رياح الإنتفاضة هو و أخته هنية من منبتهما بالتل العالي وتطوّح بهما إلى دروب مدينة تونس ليرتميا في أحضان الحسناء شاذلية وإبنها توفيق بن يونس وهما من أتباع الوزير الاكبر مصطفى خزندار , فكان الحب المحرّم ثم المصير على غير ما توقعا إذ ما لبث أن ضاعت الآمال وما لبث أن انفرط عقد من تآلفوا فإلتوى حبل الاحداث حول مخانقهم وحول مخانق من كانوا على صلة بقصر باردو وبمعامع الثورة فأدركت بعضهم غصرة الضيق ونالت من آخرين عصرة الخنق

  • المؤلف: حسنين بن عمو
  • الناشر: دار نقوش عربية للنشر
  • اللغة: Arabe
  • عدد الصفحات: 592
  • تاريخ الصدور: 2020

في قراءتي الأولى للروائيّ حسنين بن عمّو، أكتشف دراما تونسيّة ذات طابع ملحميّ نادر. تتهاطل فيه الأحداث بشكل كثيف وربما مفرط أحيانا. ولأنّ الأمر يتعلّق برواية تاريخية فليس لي إلا أن أستحضر أعمال جرجي زيدان الشهيرة، فالعناصر المشتركة كثيرة، أهمّها الاعتماد على الحدث التاريخيّ، والقصّة الخيالية الموازية التي تتقاطع مع الحدث التاريخيّ أحيانا وتفترق أحيانا أخرى، وتقديم القصّة على الأسلوب خصوصا.
لا شكّ أن الأسلوب مثّل برأيي نقطة الضعف الأساسيّة في هذه الرواية. ولئن كان الغرض من ذلك تبسيط النصّ ليصل إلى أكثر ما يمكن من القراء، فإنّ التبسيط يمكن أن يقوم دون التخلّي عن أسلوب حكائيّ تشويقيّ الطابع يتقدّم مع القارئ في زمن الأحداث لحظة بلحظة عوض أن يبدوَ تلخيصا مقتضبا لها.
هكذا مرّت الرواية على بعض الأحداث مرورا سريعا محبطا، كحادثة سقوط العاتي في المدرج رغم قيمتها الدراميّة العالية في الرواية. كما يبدو أن الشخصيات تتعامل بذات الفتور تجاه الأحداث التي تقلب حياتها، فلا تغيّر منها الكثير إلا حينما يقرّر الكاتب ذلك. بشكل أوضح، لا تتغير الشخصيات بحسب طبعها وتأثير الأحداث عليها، وإنما بحسب خطّ السرد الذي رسمه الكاتب. هكذا يظهر لنا شيء مثل تعرّض هنية للاغتصاب وتقبلها لذلك ببعض الدموع لا أكثر، بل عوض أن تبدوَ مصدومة وتفكر في الانتحار قبل أن يعرف أهلها “الفضيحة” كما يمكن أن تفكّر أي فتاة قادمة وسط قبليّ تونسيّ من القرن التاسع عشر، ومتعرّضة لضغوط نفسيّة بسبب الرحيل إلى الحاضرة، صارت هنية تطيّب خاطر شاذلية وتحاول أن تمنع عن توفيق الأذى.
تتكرّر في الرواية تنميطات قصصية fictional patterns بعينها، مثل الرجل الذي يترك امرأة ليجدها قد اختفت، أو العلاقة الممنوعة، أو غيرها، ما أفقدها أحيانا بعض سحرها وجعلها ركيكة. فعلاقة العاتي بشاذلية كان يمكن أن تكون متميّزة وفريدة، لو لم تكن مجاورة لعلاقة ممنوعة أخرى بين توفيق وهنية، فتحوّل الأمر من شيء إباحيّ مثير، إلى ضرب من الباه (porn) ركيك.

مع ذلك أجاد الكاتب التعامل مع بعض الشخصيات الأخرى، خصوصا التاريخية منها. وهو أمر يدلّ على قراءة متمعّنة ورائعة لتاريخ البلاد التونسية في القرن التاسع عشر (ما يجعلني أتساءل كثيرا بخصوص بعض التفاصيل التاريخية التي تبدو مخالفة تماما للمعلومات الرائجة). ولا شكّ أن تركيزه على شخصيّة مصطفى خزندار كان متعمّدا فإذا هو يدرسه دراسة نفسية طريفة تنتهي بتساؤل الحائر : أهو شيطان أم ملاك؟ وهو تساؤل لا يريد إجابة بل هو إجابة بذاته لغرض الكاتب من وراء هذا التحليل.
بذلك التمعّن أيضا حاول الكاتب تصوير شخصية الصادق الباي وطغيانه وخوفه الدائم على حكمه، لكنّه كان حيييّا أمام علاقة الصادق باي بغلامه مصطفى بن إسماعيل، وعموما لم يشأ أن يتحدث عن هذا الغلام كثيرا رغم ما بلغه من نفوذ.
بذات التجاهل تعامل الكاتب مع خير الدين باشا التونسي، فتحدث عنه خلال زيارته للباب العالي، ولم يغص أكثر في علاقته بحميه مصطفى خزندار ولم يتحدث عن مسألة استقالته سنة 1862 احتجاجا على سياسة الوزير، وتفرّغه لكتابة أقوم المسالك. كما كان المرور على أبرز الشاهدين على العصر مقتضبا ومحبطا وأعني به أحمد بن أبي ضياف. وأخيرا، لم يظهر
جنرالات المدرسة العسكرية إلا بوصفهم آلات قهر وظلم، متجاهلا الجانب التنويريّ الذي حاولوا فرضه على الدولة التونسيّة.
في المقابل أظهر الكاتب تعاطفا لا مشروط مع باي العربان، فلم يكتف بإحاطة شخصيّته بهالة تمجيد وإكسابها خصال القائد المثاليّ، بل جنح إلى محو الجانب الأسود في سجلّها التاريخيّ، فعمد إلى قراءة تأويليّة جعلت أطماع عليّ بن غذاهم في هنشير الروحية وفي عمالة أخيه لماجر وحصول بعض اتباعه للمشيخة، جزءا من رؤية إصلاحيّة لا أكثر. لقد قوّض الكاتب بهذه القراءة التمجيدية التنزيهيّة ما بناه في شخصية مصطفى خزنة دار.

والغالب أن كلّ ذلك ليس اعتباطيّا، وإنما يعكس موقفا خفيّا للكاتب لما يحدث في الساحة التونسيّة في حاضرنا. فلا يخفى أن العودة إلى عام الفزوع 1964 ليس إلا تورية للعودة إلى عام الثورة 2011، وما التركيز على عبارات من قبيل دولة المخزن، وهيبة الدولة، إلا تلميح لهذا الإسقاط المتعمّد.
سنكتشف في حسنين بن عمّو مساندا للثورة على دولة المخزن، وعلى البلديّة الذي يدّعون ملكيّتهم للبلاد رغم أصولهم الشركسيّة التي ألحّ الكاتب في تبيينها مع كلّ شخصيّة منهم. وفي المقابل كانت شخصيّات شق الثوّار المنتمي أغلبهم إلى الداخل التونسيّ، مثالية تقريبا على منوال العاتي ولد المشري. ولكي لا يقرأ ذلك كانحياز للداخل على حساب الساحل، ركّز الكاتب كثيرا على عملية قمع الساحل (وهي في الواقع تلك القرى المحيطة بسوسة والتي تعيش فيها أيضا قبائل تأذّت من سياسة الدولة).
فكرة الكاتب واضحة من خلال هذا الطرح، فهو يقسّم القوى السياسية في تونس اليوم أيضا إلى قوى ثوريّة وقوى تمثّل دولة المخزن. تحاول الثانية الحفاظ على موقعها في الدولة، وسيطرتها عليها، بينما تنقسم القوى الثوريّة على نزاهتها ومثاليتها إلى شقّ مسالم يمثّله عليّ بن غذاهم، يبسط يده للدولة العميقة ولا يدعو إلى إسقاطها بل إلى إصلاحها بمشاركتها للحكم، وتحمّله معها أعباء الدولة ولو من خلال المناصب الصغيرة، وشقّ راديكاليّ يمثّله فرج بن داحر، يعتبر أي تفاهم مع دولة المخزن باطلا وغير ممكن، ويدعو فقط إلى إسقاطها. ولم يكن ناقصا إلا أن يستعمل الكاتب عبارة “الأيدي المرتعشة” ليتأكد لنا الأمر.
لقد ركّز الكاتب على عملية احتواء دولة المخزن للنفس الثوريّ من خلال الوعود والمماطلة، ما أدى إلى انقسام الثوار إلى فرق متباينة، وأحدث بينهم نعرات إيديولوجية أكثر منها قبلية، من خلال إعادة الصراع الباشي/الحسيني، وهي فكرة تبدو لنا مألوفة في هذا الزمن.
لذلك كله، لا يمكن أن أصدق تماما خلفية الغلاف حين تدّعي كتابة الرواية في السرّ، أي ـ غالبا ـ قبل الثورة، والأرجح عندي أنها كتبت آنذاك ثمّ أعيد كتابتها على شكلها الحاليّ، لتلائم الواقع التونسيّ القائم، وترسل إشارات لمن يهمّه الأمر.

رواية تاريخيّة ممتعة، يعيبها أسلوب القصّ المغرق في البساطة، رغم ما تحمله من عناصر ملحمية واعدة. وعلى كلّ حال فنحن بحاجة إلى هذه الروايات التاريخيّة، فهي السبيل الوحيد لعموم التونسيّين كي يحصلوا على تصوّر متكامل لماضيهم.

فاروق الفرشيشي

Similar Posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *