رواية الغائب للرّوائي التونسيّ أنيس بن عمّار عن دار المصري للنّشر و التوزيع . تدور أحداث الرّواية حول رحلة شابّين عربييّن عبر قوارب الموت من جنوب ضفّة البحر الأبيض المتوسّط إلى شماله ، و تحديدا إلى إسبانيا . الرّواية تتحدّث عن العبور من ضفّة وجع لآخر . رواية تغوص في أغوار وجدان الشاب المهاجر . تستبطن مفاهيم الوحدة ، و الخوف ، و الأمل ، و المعاناة ،و الحبّ ، و الحنين و الإرادة .

رواية إنسانيّة بالدّرجة الأولى تضع القارئ أمام جدليّات وجدانيّة عديدة ، أهمّها : هل يستطيع الإنسان أن يغيّر من واقعه فقط بالهروب من خريطة مكانيّة إلى أخرى ، أم أنّ معاناته الحقيقيّة تكمن في الخرائط اللاّمرئيّة لأعماق ذاته المعذّبة .. هناك حيث تتشابك آلام الماضي البعيد بهواجس مستقبل ضبابيّ

و باء الهجرة الغير شرعية اصاب الكثير من شباب الدول القابعة تحت خط الفقر و الطامحين فى حياة افضل. هذه الحياة لا يفصلهم عنها سوى رحلة عبر الامواج بمراكب الموت من الضفة الجنوبية للمتوسط للضفة الاوروبية. و اصبحت السواحل الجنوبية للمتوسط هى الملتقى لراغبى الرحيل. رحلات الموت هذه اصبحت هى الخلاص من يأس الحياة و قسوتها و احباطاتها .. عابرين الاهوال و الصعاب للوصول الى احلام بعيدة المنال .. احلام ترسم فى خيالاتهم صورة وردية مشوهة لواقع الغربة المرير.

رواية “الغائب” للكاتب انيس بن عمار تحكى لنا قصة اغتراب الشابان امير و اشرف و هجرتهم الغير شرعية الى الضفة الاخرى للاحلام. لم يفصح بن عمار فى روايته عن اسم البلد الذى هاجر منها امير و رفيقه اشرف ولا اسم القرية الفقيرة التى رحلا عنها بلا عودة .. قريتهم صورها بن عمار كرمز لاى مكان يصدر الى اوروبا شبابا يائسا مكدرا مهزوما..

تحت جنح الظلام تبحر الزوارق المكدسة بهؤلاء الشباب من السواحل الشمالية لافريقيا الى شواطئ اوروبا. شباب طامع فى حياة افضل على الضفة الاخرى من المواج . و فى سبيل تحقيق هذا الحلم يغا��رون بحياتهم فى رحلة “ترافقهم فيها اشباح الموت” و تنتقى منهم من حان اجله قبل ان يبدأ حلمه، “فتلقى بجثثهم الى اسماك البحر ليدفنه بمعرفته فى المقبرة المائية” . و مع وصول القارب الى سواحل اسبانيا فى بقعة مجهولة لا اسم لها فى خاطر امير.. تبدا رحلة شقاء اخرى فى المهجر. فى رواية “الغائب” لم يختار امير و رفيقه اشرف مكان وصول قاربهم و لا يهمهم معرفه اسمه، و كذلك لم يكن لديهم اى امتياز لاختيار محطتهم التالية و ينتهى بهم الحال فى برشلونة لانها كانت وجهة صاحب الشاحنة التى اقلتهم من على الطريق. كل ما كان يهم امير كما ذكر هو شعوره بالحرية بعد ان استطاع المرور عبر “الحدود الجغرافية و الخطوط الوهمية التى رسمها المنتصرون و التى من خلالها تم تحديد اقدار البشر و حقهم فى الترحال و العيش بكرامة “.

رواية الغائب تأخذ القارئ فى رحلتين متوازيتين .. الرحلة الاولى داخل وجدان امير و رفيقه اشرف و الرحلة الثانية يرافقهم القارئ من خلالها عبرامواج البحر المتوسط ثم الاطلسى .. تبدا الرواية بمشهد استقبال بطلها أمير – و الذى امضى عشرين عاما فى مدينة مونتريال بعد ان ” القت به سفينة تحترف التجارة باحلام اليائسين على شواطئ العالم الجديد.” – لابنته الثالثة. صراعه النفسى الذى رافقه الى السواحل الاسبانية استمرت معاناته منه بعد وصوله الى العالم الجديد ، ووصول المولودة الثالثة لم يضيف الى حياة امير سوى الاحساس بالمزيد من الفشل فى تحقيق اى حلم من احلام الاغتراب التى كان يطمح لها يوم قرر الرحيل بلا عودة.

امير بطل الرواية يطارده ماضية و نشأته المتواضعة فى قريته الفقيرة التى “اغتال الفقر فيها كل امل لحياة فيها امل” .. هذه الطفولة الحائرة بين حنان امه البائسة الراضية بفتات ما تلقيه لها الحياة من مرار و بين بطش ابيه السكير لامه و له. و بما ان لكل بطل غريم كما تعودنا دائما فى الروايات، الا ان فى رواية “الغائب” فان خصم امير لم يكن شخص بل كانت ظروفه الكالحة و رحلته عبر الحياة.

على صفحات الرواية يعيش القارئ الصراعات الوجدانية و العاطفية لأمير و التى مرت بثلاثة مراحل من الطفولة فى القرية الفقيرة الى مرحلة الرجولة فى منتريال و المارة بمرحلة الشباب و التى امضى عامين منها فى اسبانيا. مرحلة الشباب هذه هى التى بنى عليها بن عمار روايته، و التى افاد من خلالها بان الاغتراب ليس اختيار بل هو قرار تجبره الظروف على كل من عانى و يعانى منه. الاغتراب كما وصفه بن عمار على لسان أمير هو “فرار و ليس قرار .. هروب من رحلة الحياة “.

امير و ليد الشقاء يختار الغربة هربا من مستقبل بائس يعلمه مسبقا، فهو يراه على وجوه ساكنى قريته. هو الاخ الاكبر لثلاثة اشقاء يتحمل مسؤلية رعايتهم منذ الصغر. هذه المسؤلية حرمته من طفولته و من التعليم ايضا. شب قبل الاوان كحال الكثيرين من امثاله فى البلاد التى تسمى بالعالم الثالث.

رواية “الغائب” يسرد احداثها امير و الذى يحكى بالفلاش باك وقائعها الرئيسية التى جرت له فى فترة العامين اللذين قضاهما مع رفيقه اشرف فى برشلونه . عامان اشتغلا خلالهما تحت الطاولة (اى بدون اوراق شرعية) و امضياهما مطاردين كالكلاب الضالة و مهددين بالترحيل من قبل شرطة الهجرة ..
الحياة على الضفة الاخرى من المتوسط ليست وردية كما يتصورها البعض. فعلى هذه الضفة استقبلهم الجوع و البؤس .. و مع نضوب القليل من الاموال التى تحصلوا عليها قبل السفر لم يجدوا سوى حاويات القمامة و ما بها من النفايات لتسد رمقهم. ارتادوا الارصفة و الطرقات، افترشوا مقاعد الحدائق كاأسرة يأوون اليها للنوم عندما يحل التعب باقدامهم و أجسادهم المنهكة.

بعد ان اصابهم الياس من ايجاد فرصة عمل ، لم يعد امامهم سوى سرقة المارة و خطف حقائب يد السيدات و اقتلاع السلاسل من اعناقهم. تنشلتهم الصعلكة و الجريمة من الفقر و ترتقى بهم الى “مرتبه الجرذان الساكنة اسفل الطرق”. يرتادون الحانات و المطاعم و المواخير و تمتلئ بطونهم بالطعام و الشراب. يتعرفون فى احدى الليالى على الغجرى “بيدرو” الذى يجمع قوته من عزف الجيتار فى انصاف الليالى تحت تمثال الضخم بأحد الميادين العامة، حيث يلقى له العشاق المتسكعين فى الطرقات قطع معدنية فى غطاء جيتاره الخشبى. يساعدهم بيدرو على بيع مسرقاتهم الذهبية و التى من عائدها يعيشان حياة مترفة فى برشلونة لمده عده شهور تنتهى بمقتل بيدرو. و مع مقتله يودعون حياة الترف و يباشرون رحلة الشقاء.

و بعد مطاردة امنية اوشكت ان تعرضهم لشبح الترحيل تقودهما اقدامهم الى بنسيون كلارا المتقدمة فى السن و التى “لم تشم رائحة جسد رجل منذ زمن طويل”. و مع استاجرهم لغرفة البنسيون التى كانت تشبه خندق بلا نوافذ و ذات الرائحة العطنة، تبدا مرحلة جديدة فى رحلتهم. بعد معاناة طويلة يفشل فيها الشابان فى الحصول على عمل شريف، يبيع اشرف جسده لصاحبة البنسيون مقابل الايجار و وجبات ساخنة. و كما اثار سرقتهم للمارة سؤال هل الغاية تبرر الوسيلة، يتسال امير مرة اخرى نفس السؤال بعد ممارسة صديقة الرذيلة مع امراه فى سن امه من اجل عيش بكرامة .

من خلال احداث الرواية يلقى بن عمار الضوء على ان مأساة المرأة فى هذا العالم الذكورى لا تستثنى فيها مواقع جغرافية دون الاخرى. ام امير فى القرية الفقيرة و العاهرة كلارا صاحبة البنسيون هما وجهان لعملة واحدة ، فبالرغم من انهن يسكنان على الضفاف المواجهه للمتوسط الا انهن ضحايا لشوفنية الرجل و حتى ان اختلفت نشأته و هويته.

توظف كلارا كلا من امير و اشرف فى حانتها يخدمان السكارى حتى الساعات الاولى من الفجر. يتحصلان من العمل الشاق ما يكفيهم للعيش و ما يكفى امير لارسال اموال الى امه و لمساعدة اخوته ، و لكن العمل الشاق لا يكفى عندما تكون اوراق العمل غير قانونية. و عندما تقف الهوية حائلا فى الطريق و تنثر لعناتها على حاملها، عندها يصبح الهروب هو الحل. و يعاود الصديقان الترتيب للهروب مرة اخرى و لكن التسلل الى شواطئ القارة الامريكية ليس بالسهولة كالابحار عبر امواج المتوسط….

رواية “الغائب” ليست فقط قصة شابين اضطرتهم الظروف للهجرة من بلادهم، بل هى رواية اكثر عمقا من ذلك. انها رواية ذات نكهة فلسفية تحلل النفس البشرية و تسلط الضوء على الاغتراب الذى يحيا بداخلنا. فكل منا مغترب فى درب الحياة ، فى اتجاه او اخر .. سواء من رحل عن بلاده او من لم يرحل.. فكم من مغترب يعانى من الوحشة و هو لم تطأ قدماه خارج حدود بلده.. و كم من مغترب رحل من بلاده و تبعته الغربة الكائنة فى اعماق نفوسه اينما ذهب. الاغتراب الداخلى لا يمحى بتغيير الامكنة.. فاشباح الماضى التى تستوطن داخلنا تهاجر معنا على متن اكتافنا التى نحمل عليها عناء و مشقة الحياة .. و فى مقابل كل ما نكتسبه على درب الطريق، فنحن نفتقد شيئا في المقابل..

نجح بن عمار بحرفية الشاعر و عبقرية الكاتب من ان ينسج الاحداث باسلوب سلس و انيق، ساعده على ذلك ثراءه اللغوى و كنز المفردات الذى يحتكم عليه. بريشة فنان مبدع اختلق التفاصيل الدقيقة للشخصيات و حتى الثانوية منها ، و وظف أدواب الكتابة ليبدع مشاهد تمتلئ بالحركة و الالوان و تثير خيال القارئ مما يجعله يحيا وسط الاحداث كانه جزءا منها او كانه يتفرج على شريط سينمائى لها. و مع الانتهاء من قراءة رواية “الغائب” تساءلت اذا نشهد ميلاد باولو كويلو الرواية العربية.

Alexandra Kinias

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *