رواية “آخر الرعية”، للكاتب التونسي أبوبكر العيادي، يقسمها إلى ثلاثة أقسام؛ الأول بعنوان “الباش كاتب”، صدره بقول لابن خلدون “اعلم أن السيف والقلم، كلاهما آلة لصاحب الدولة يستعين بهما على أمره”.

الباب الثان بعنوان “الكبير الأعظم”، وصدره بقول مأثور لابن المقفع ”إن الوحيد في نفسه والمنفرد برأيه حيثما كان، هو ضائع ولا ناصر له”. أما الباب الثالث “آخر الرعية” فصدره بقول للكاتب الروسي ميخائيل “لا تظنن أن ذلك النهر تحت الجسر نائم”، ولعله بذلك يذكرنا بقول أبي القاسم الشابي في قصيدته “إلى طغاة العالم”، “حذار فتحت الرماد اللهيب”.

هذه العتبات تمثل عناصر نصية تساعدنا على استقراء الفضاء السردي في الرواية وإطاره التخييلي، وتؤكد صلة الكتابة من ناحية البناء الفني بذاكرتها الأدبية، وهو ما يدعم رأينا الذي ذهبنا إليه في إشارتنا إلى البنية اللغوية، وعلاقتها بالتراث السردي العربي القديم

آخر الرعية، رواية من أتقن قراءة الأمس في سبيل استقراء الغد!

رواية أبو بكر العيادي، رواية تمّت كتابتها ما بين عامي 1995 و 2001، لتصف بشكل حرفي تقريبًا ما سيحصل لاحقًا إبّان سقوط العديد من الديكتاتوريات العربية وإعادة انتاج بعضها! وهذا ينمّ عن سعة إطلاع كاتبها وقدرته على رؤية مآل الطاغية انطلاقًا من واقعه. تمّ منع هذه الرواية وأعيد طبعها لكن لجودتها لم تأخذ حقّها، وهذا اعتدنا عليه…

قيل لنا: “إذن هي بيعة؟” فقلنا: “أجل، ولكن بالطرق الديمقراطية” وقيل لنا: “ما الديمقراطية؟” فقلنا: “أن يكون لكل فرد بالغ بطاقة ناخب هي بمثابة بطاقة الهوية لا يحق له شيء ما لم يمتلكها”.”

في البداية خلق الكاتب شخصية (الباش كاتب)، وكم كان دقيقًا في جعله أول الرواة في صدر الرواية، فصنّاع الطاغية أشد حنكةً وذكاءً من الطغاة انفسهم وهم حكّام الظل، خصوصًا تلك الفئة التي لا ترضى ان تكون في الصدارة ولا في المركز الثالث بل أن تكون في المرتبة الثانية دائمًا عبر النصح والتوجيه وإمساك خيوط اللعبة الأمنية والسياسية والإقتصادية والإعلامية.

في الفصل الثاني، استطاع العيادي ان يخلق شخصية (الكبير) التي يمكنك اسقاطها على الكثير من الحكّام العرب (وغير العرب ايضًا)، فتتسآل هل يتكلم هنا عن فلان او علان؟ في هذه الدولة او تلك؟ وهذه نقطة قوّة للرواية التي لم تحصر نفسها في جلباب “احدهم” بل اتسعت لتشمل الكثيرين!

هنا الراعي هو الذي يحاسب الرعية، هو الأصل وهي الفروع، هو الثابت وهي التوابع، وما من نعمة تجزى بها إلا من خيره””

أمّا في الفصل الثالث فيأخذنا في رحلة ما بعد التداعي، “الساعة الخامسة والعشرون” إذا جاز التشبيه، فترة ما بعد سقوط الطاغية، الفوضى والموت والدمار وفي ذات الوقت الأمل وعودة الطيور لبناء أعشاشها. كذلك إمكانية تطويب دكتاتور جديد لا يختلف عن القديم سوى بالإسم ويتبع النهج نفسه بفعل تغييب وعي الشعوب.

لا نريد حرية البهائم والسوائم نروح ونغدو بين نوم ونوم. نريد ان نكون احرارًا في ما نقول ونفعل”

عظمة هذه الرواية في لغتها، بل في فلسفة اللغة التي استعملها الكاتب، فنراه يستعمل في الفصل الأوّل لغة فصيحة قديمة فيها الخشبي من الألفاظ والميّت من الأسلوب (السجع مثلًا) والقديم من التراث (دونه خرط القتاد) ثم في الفصل الثاني يتابع لكن بوتيرةٍ أقلّ خصوصًا ان الرواي يتغير للدكتاتور الأقل علمًا وثقافةً من الباش كاتب. أمّا في الفصل الأخير فيستعمل لغة حديثة معاصرة. هذا التغيّر في اللغة ليس صدفةً على الإطلاق بلّ هو كناية عن ان الدكتاتور والباش كاتب يعيشان في زمان آخر لا يمت للواقع بصلة، حالة انفصام تامة، او حالة خارج الزمان بالمطلق.

ما يؤكد على هذا ايضًا، ان الكاتب يقتبس في بداية أول فصلين من ابن خلدون وابن المقفع بينما اتى اقتباس بداية الفصل الثالث من شولوخوف. ويمكنكم حساب الزمن ما بين الثلاثة!

في اللغة أيضًا، يعطي الكاتب للولايات التي تتألف من عربانيا اسماء أصنام قريش (هبل، اللات، جهار،سواع، نائلة، الخ…) وهذه له دلالة معنوية في عبادة وتأليه الحكّام كما انه ينحت الأسماء بذكاء كمثل “صبي الأعشى” والتي تحيلنا الى كتاب صبح الأعشى، و “الراضي الأشرف” التي تحيلنا الى الشريف الرضي وغيرها… دمج الكاتب أبيات شعرية كانت من نسيج النص بشكل تام وفي موقعها ومناسبة للمعنى.

وفي خطبة الجمعة كان المفتي لا يني يذكّر الناس بأن طاعة السلطان من قواعد الشريعة المطهّرة، وانها فرض واجب على الرعيةة، تؤلف شمل الدين وتنظم امور المؤمنين، بها تقام الحدود وتؤدى الفروض وتُحقن الدماء وتؤمن السبل.. وأن الخارج عنها منقطع العصمة بريء من الذمة… وأن عصيان السلطان يهدم أركان الملًة، فمن غش السلطان ضل وزلّ…. فإذا الإذعان لظلمه، والسكوت عن جرمه، والرضى بعسفه وبطشه في رأيهم تمسّك بحبل الله المتين.”

في التقنية الروائية، استعمل الكاتب تقنية تعدد الأصوات، ثلاثة أصوات منفصلة، صوت لكل فصل، محاولًا رسم الصورة بشكل ثلاثي الأبعاد من زاوية نظر الطاغية ومساعده وأحد المعارضين، استعمل ايضًا ما يعرف بالتنبؤ او ال.
(flash-forward)

الحبكة ممتازة، استطاع جعلها مشوّقة مع تتابع الفصول وكشف الغطاء عن خيوطها بشكل متواتر وتناقض احيانًا تبعًا للراوي.

الثيمات كثيرة جدًا، كالزواج الشيطاني ما بين الدين والسياسة حيث يصبح رجل الدين مطية للسياسي، نظرة الحاكم لنفسه ولرعيته، الخوف، السجون، التعذيب، التزلّف،… لكن الأهم بالنسبة لي والتي تظهر استنارة الكاتب كانت في موضعين: الأول في إجرام النظام الحاكم في تفتيت الوعي، والثاني في الختام مع إعادة صنع الدكتاتور لأن الوعي مفتت وكأن الكاتب يريد القول طالما انكم بهذه العقلية سيسقط طاغية لتنصبّوا غيره!

عسكري لا يفقه من أمور العسكر غير القنص، كأن طريقه الى الخلود لا تنبسط الا اذا كانت معمّدة بدماء ضحاياه، ولا يرى في الحرية غير ضرب من الأفكار الغريبة المستوردة، ولا يفهم من الحكم اكثر من طاعة الشعب لأولي الامر، وأولو الامر عنده لا يتعدّون شخصه الكريم.”

ختامًا، رواية مبهرة، من المعيب الا تأخذ حقها، لكن الحاضر رديء والمستقبل آتٍ، رواية في متعة اللغة ومتانتها وحسن صقلها، رواية استشرافية بعض منها حصل وبعضها الآخر ما زال ينتظر، أنهيها بهذا الإقتباس المقصود:

لا تنسي أننا أمة تسيّرها العاطفة، نحب بعنف، ونكره بعنف. وفي غياب الاقتراع، بأتي الحاكم عقب انقلاب، فنرى فيه المنقذ الذي جاء ليرمم ما قوّضه سلفه.. فنحبه ثم نجلّه ثم نكبره ثم نؤلهه… فيتصرف في المصائر كما يهوى، وحينما نفيق من ذهول الحلم، نكتشف ان الوعود محض أوهام، وان الترميم لم يبرح نقطة البدء… وإذا نحن نذعن لطاغية جديد، صنعناه بأيدينا، نفخناه بأفواهنا وزودناه بالسيف والنطع اللذين سيتلقيان رقابنا.”

ملاحظة اخيرة: ناقشنا الرواية في نادي صنّاع الحرف لمدّة أربع ساعات ونصف، وكان نقاشًا غنيًا وممتعًا.

فايز غازي Fayez Ghazi

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *